الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن الله تعالى قد فضَّل بعض الأزمنة على بعض، واصطفى بعض الأوقات على بعض،
((وربك يخلقُ ما يشاءُ ويختار))
له الحكمة البالغة، والحجة الدامغة.
وإن من الأزمنة المفضلة، والشهور المخصوصة بكثرة العبادة، شهر شعبان، الذي سمي بهذا الاسم لسبب رجحه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح فقال: " وسمي شعبان لتشعُّبهم [أي: العرب] في طلب المياه أو في الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام... وقيل فيه غير ذلك " ا.هـ .
فمن فضائل شعبان:
أن الأعمال تُرفع فيه؛ لما رواه أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهما قَال : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ ؟ قَالَ
: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ ) رواه أحمد، والنسائي، وصححه ابن خزيمة .
ومن فضائله:
كثرة صيام النبي عليه الصلاة والسلام فيه؛ لحديث أسامة السابق ولحديث أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها قالت :
(مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلاَّ رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ) رواه الشيخان.
قال ابن رجب رحمه الله:
"فيه دليل على استحباب عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة ، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة، ويقولون هي ساعة غفلة، ومثل هذا استحباب ذكر الله تعالى في السوق؛ لأنه ذكْر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة".
أخي الغالي..
شهر شعبان – لو تأمّلتَ - هو التوطئة الحقيقية لشهر رمضان، والتمهيد المباشر لاستقباله، حيث يمثل دورة تدريبية للفرد، وفترة تأهيلية للأسرة، قبل قدوم شهر الصيام والقيام، بحيث تتطلع فيه النفوس للُقيا شهر الصبر، وتتهيأ فيه القلوب للتوبة والإنابة، وتتوقد فيه الهمم للاجتهاد والعبادة؛ وتُشحذ فيه العزائم للذكر والتلاوة.
فلا يكاد يدخل الشهر الكريم إلا ويفعل فِعلَهُ في نفوس المؤمنين والمؤمنات، فترى المساجد ممتلئة بالمصلين، مكتظةً بالتالين والذاكرين، وترى البيوت كخلايا النحل ذكراً وتلاوة، وسكينةً وطمأنينة، وهكذا المرافق والتجمعات العامة، قد خلت في الغالب مما يُغضب الله تعالى!
هذه هي وظيفة شهر شعبان:
التهيئة والتوطئة لاستقبال رمضان، ليؤخذ بحقه، ويُستقبل الاستقبال الذي يليق به، لا كما يحدث دائماً: بينما مُعظم الناس في معمعة الحياة، قد أعمت أعينَهم مغرياتُها، وأصمّت آذانهم ضوضاؤها، وألهت قلوبَهم ملذّاتُها، إذ فاجأهم حلول الشهر، وهجمت عليهم أول ساعاته، فلا يُفيق أحدهم إلا وهو يسمع: غداً رمضان! حقاً!! غداً رمضان؟! لم نستعد له بعد!! كنا نظنه بعد يوم أو يومين!!
كيف لمثل هذا أن يستغل هذا الشهر الكريم.. والموسم العظيم؟!
كيف له أن يستثمر هذه الأيام المعدودات.. واللحظات المباركات؟!
إنه قد يكون نادماً على أنه لم يتهيأ لاستقبالها كما ينبغي!!
أعني: ندماً على أنه لم يتهيأ للاستكثار مما سيأكله في شهر الصوم والإمساك!!
إن هذا حال أكثرنا، فالمهم في المقام الأول: ما الذي سنأكله، لا ما الذي سنفعله!!
المهم في المقام الأول: كيف نأكل ونشبع.. لا كيف نصوم ونخشع!!
المهم في المقام الأول: كيف نلهو وننام.. لا كيف نتلذذ بالقيام!!
أخي العزيز..
لماذا لا تستعد من الآن وتجعل شعبان هذا مختلفاً عن كل شعبان مضى؟
ورمضان الآتي مختلفاً عن كل رمضان انقضى؟!!
نعم.. قل لي لماذا بصدق وصراحة؟!
هل استسلمتَ إلى حدٍّ رضيت فيه بهذا الغبن الفاحش؟!
قرر الآن..
واعزم تغيير ما كنت عليه من تقصير وتسويف بعزيمة من عزمات الكرام!
افتح من الآن صفحةً جديدةً مع كتاب الله تعالى، وعُد إليه بشوقٍ يدفعك لمجالسته!
نعم .. كتاب الله.. الذي طالما هجرته وأنت تُمنّي نفسك بالرجوع إليه، ثم لا تفعل!
روّض نفسك على الصوم من الآن كما كان حبيبي وحبيبك عليه الصلاة والسلام!
داوم من الآن على الأذكار الشرعية، والآداب المرعية، صباحاً ومساءً!!
إن هذا وإن شقَّ عليك في البداية، لكن ثوابه مضاعف بفضل الله تعالى، فإن العمل الصالح أفضل ما يكون عند غفلة الناس وهرجهم ولهوهم، حيث إنه أشقُّ على النفوس، وهذا من أسباب أفضلية الأعمال؛ لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهُل على النفس ونشطت له، وإذا كثرت الغفلات شق ذلك على المتيقظين، وصعب عليهم استنهاض هممهم!
وقد روى مسلم من حديث معقل بن يسار: (العبادة في الهرْج كالهجرة إلي)!
الهرج: الفتنة ؛ لأن الناس يتبعون أهواءهم، فيكون العابد الـمُخبِت فيهم قليل!
جعلني الله وإياك ممن يوفقون لفعل الخيرات وترك المنكرات..
كما أسأله أن يوفقنا للاستكثار من الباقيات الصالحات..
وسلامٌ على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين..